السبت، 28 سبتمبر 2013

الصغير وأنا و "الآيس كريم" !




كنت أسير في طريقي وكان يمشى أمامي حاملا على ظهره حقيبته المدرسية ويبدو أنه كان عائدا إلى منزله بعد إنتهاء يوم دراسي طويل.
كان يمسك بيده "آيس كريم" وينزع عنه غلافه حتى يستطيع أن يستمتع به وما إن رأيته حتى تساءلت: ماذا يا ترى سيفعل بغلاف "الآيس كريم"؟ هل سيرمي به في الطريق كما يفعل الكثيرين ممن هم في مثل سنه بل وممن هم في سن أبيه وأمه وجده وجدته؟ أم سيحمله في يديه الأخرى حتى يجد سلة قمامة أو يضع الغلاف في حقيبته حتى يصل للبيت؟
لم يتركنى الصغير أتساءل طويلا وكنت ما زلت أمشي من خلفه على بعد خطوات، ووجدته كما توقعت يرمي بالغلاف على الأرض ويمشي في طريقه وكأن شيئا لم يكن وهو المشهد الذي يتكرر أمام الواحد عشرات المرات طوال اليوم وفي أماكن متباينة ومن أعمار متفاوتة وفي ظروف شتى حتى أنه أصبح هو المشهد الطبيعي عندما تراه ألا تتعجب منه والمشهد الآخر هو الذي أصبح يبعث على العجب!
ما إن رأيت الصغير يرمي بغلاف "الآيس كريم" على الأرض حتى خرجت عشرات الأسئلة من مخبئها والتي تعودت على خروجها في مثل هذه المواقف، والتي أرى أحد الناس في مكان ما في موقف ما يفعل أمرا منكرا وإن لم يكن بطل القصة في كل الأحيان طفلا صغيرا.
هل أذهب إليه وأقول له أن ما فعله هو أمر غير حسن وما كان عليه أن يفعله؟ ولكن ماذا إن لم يهتم بما أقول له أو قال لي أنه ليس من شأني أو شتمني أو تطور الأمر لما هو أبعد من ذلك ؟
هل أمشي في طريقي وكأن شيئا لم يحدث وكأني لم أشاهد شيئا ؟
تستمر الأسئلة في الخروج سؤالا وراء الآخر وتتجاذب الواحد للحظات مشاعر متضاربة وأفكار متباينة وفي أحيان كثيرة يمشي الواحد في طريقه وكأنه لم يشاهد شيئا ويحاول أن يختلق لنفسه حزمة من الحجج والأعذار حتى يُسكت بهم أصوات العقل والضمير حتى يمر من هذا الموقف ويبتعد عن مسرح القصة ويستسلم ويغرق في دوامة الحياة من جديد.
في هذه المرة تشجعت بأن البطل أمامي طفل صغير، ويحتاج بشدة أكثر من غيره لهذه النصيحة والتي وإن لم تثمر في وقتها، فقد يحملها الصغير في داخله لبعض الوقت حتى يحين أوانها وتثمر خيرا في يوم قريب، وأسرعت بالخطى حتى أصبحت بجواره فهمست بجوار أذنه: لماذا رميت غلاف "الآيس كريم" على الأرض؛ هذا أمر سيء؟.
كنت أنتظر من الصغير في أحسن الأحوال أن يبتسم في وجهي أو أن يقول لي أنه لن يفعل هذا الأمر مجددا أو أن يعتذر عما فعله ولكن الصغير فاجأني وقال لي كلمة واحدة: حاضر!
أدار الصغير ظهره وعاد في إتجاه الغلاف الذي رماه ومشيت أنا في طريقي حتى لا أحرجه أكثر من هذا ومشيت لخطوات وأحببت أن أنظر لأطمئن ماذا فعل ورأيته يحمل الغلاف من على الأرض وعاد يكمل طريقه، فابتسمت إليه وأشرت له بيدي أن أحسنت أحسنت!



قصة طريق .. (القاهرة - الإسكندرية) الزراعي .. طريق الفلاحين !!







أسافر على الطريق الزراعي الذي يربط ما بين القاهرة والإسكندرية ويمر في دلتا مصر لأكثر من 10 سنوات ذهابا وإيابا ما بين القاهرة وطنطا، وهو طريق حيوي وأساسي تصب فيه حركة الركاب والبضائع بين القاهرة ومحافظات الدلتا بكثافتها السكانية العالية ويكاد أن يكون المنفذ الوحيد لمحافظات الدلتا والذي تنفذ منه إلى القاهرة و منها إلى محافظات الوجه القبلي والبحر الأحمر وسيناء والوادي الجديد.

بالرغم من الأهمية القصوى لهذا الطريق فلم ينله الإهتمام المناسب لأهميته، ويكاد يكون الطريق كما هو لم يتغير فيه شيء منذ أن أنشىء من عشرات السنين بالرغم من ازدياد الحركة على الطريق وتضاعفها مرات عديدة وزيادة حركة البناء والعمران على جانبي الطريق، حتى أصبح الطريق يمر في التجمعات السكانية، وهو ما نزع عن الطريق لفظ "السريع" الذي كان مقترنا به في بداية إنشاءه.

عندما بدأت السفر على ( طريق القاهرة الإسكندرية الزراعي ) في نهاية التسعينيات كانت الحركة على الطريق تنساب بسهولة إلى حد كبير، وكانت الاختناقات البسيطة على الطريق تتركز في مدخل ومخرج القاهرة عند مدينة قليوب، وبدأت هذه الاختناقات تتصاعد بسرعة فتم على إثرها توسعة بضعة جسور على الطريق وزيادة عدد الحارات بها، وانعكست هذه التوسعة بالإيجاب على الطريق ولكنها استمرت فقط لوقت قصير بالرغم من أنها تكلفت ملايين الجنيهات، فالطريقة التي كانت تستخدمها الحكومات في هذه الفترة للتعامل مع المشكلات - وحتى الآن - كانت تتم بالقطعة من دون النظر للمشكلة بشكل موسع من كافة نواحيها والقضاء عليها بشكل جذري عن طريق حزمة متكاملة من الإجراءات في إطار خطة محكمة.

بمرور الوقت لم تعد الاختناقات تقتصر على مدخل ومخرج القاهرة فقط ولكن تجاوزتهما، وامتدت إلى مناطق كثيرة على طول الطريق وخاصة مع ازدياد التجمعات السكانية والأنشطة التجارية على جانبي الطريق، وكذلك نتيجة لإزدياد المطبات الإصطناعية على طول الطريق والتي تم بناء معظمها من قبل الأهالي للتقليل من الحوادث الكثيرة التي راح ضحيتها العشرات نتيجة لعبورهم الطريق وخاصة أن جسور عبور المشاة على طول الطريق قليلة جدا.

كل هذا كان يجري في غياب شرطة المرور وغياب دورها لتنظيم وضبط حركة المرور على الطريق، فحضور شرطة المرور على الطريق هزيل جدا ويغلب عليه الجانب الشكلي من دون أن يكون لها دور حقيقي وإيجابي على الطريق وخاصة في ظل المشاكل الكبيرة الغارق فيها جهاز الشرطة بأجهزته المختلفة والتي تجعله يقوم بأدوار ومهام كثيرة غير الأدوار والمهام التي من المفروض أن يقوم بها ويسأل عنها.

لم يكن خط قطارات الوجه البحري والذي يمر بجوار الطريق الزراعي بعيدا عن تلك المشاكل التي يعاني منها الطريق الزراعي، وإن اختلفت هذه المشاكل في طبيعتها وشكلها، ورغم ذلك فالقطارات تمثل حجرا وركنا رئيسيا في حركة ركاب الوجه البحري من وإلى القاهرة وخاصة مع توجه عدد كبير من موظفي الدولة والطلاب إلى القاهرة يوميا، فقطارات الصباح المتوجهة إلى القاهرة والتي تعود منها بعد الظهر لا تستطيع أن تجد مكانا للوقوف فيها إلا بصعوبة بالغة ولم يكن متخيلا أن تتوقف هذه الحركة في يوم ما، ففي الساعات القليلة التي كانت تتعطل فيها حركة القطارات لأحد الأسباب أو الحوادث الطارئة كانت الحركة على الطريق الزراعي تغرق في الفوضى وتزداد الاختناقات على الطريق بشكل كبير.

الثلاثاء، 17 سبتمبر 2013

"قوم شعيب 2013 " - هل هناك من مشترك يجمع بيننا وبين قوم شعيب ؟؟




{وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـهٍ غَيْرُهُ وَلاَ تَنقُصُواْ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّيَ أَرَاكُم بِخَيْرٍ وَإِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُّحِيطٍ } هود (84)

أرسل الله تعالى شعيبا إلى أهل "مدين" بدعوة التوحيد وهي نفس الدعوة التي دعى لها كل نبي، ولا تختلف من نبي إلى آخر، وهي أساس العقيدة، وبغير هذا الأساس لا ينهض بناء، وبعد قضية التوحيد مباشرة، ينتقل النبي إلى قضية المعاملات وإلى قضية الأمانة والعدالة.     
كان أهل مدين ينقصون المكيال والميزان، ولا يعطون الناس حقهم، وكانوا يعتبرون بخس الناس أشياءهم نوعا من أنواع المهارة في البيع والشراء، ثم جاءهم نبيهم وأفهمهم أن هذه دناءة وسرقة، وأنه يخاف عليهم بسببها من عذاب يوم محيط.

يستمر شعيب في دعوته ويكرر نصحه لقومه، ويوصيهم أن يوفوا المكيال والميزان بالقسط.
{وَيَا قَوْمِ أَوْفُواْ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ }  هود (85)

ولتنظر للتعبير القرآني (وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ) وكلمة الشيىء تطلق على الأشياء المادية والمعنوية، وليس بخس الناس أشياءهم أو حقوقهم مقصورا على البيع والشراء، وإنما النهي عن البخس هو أمر يشمل كل العلاقات بين البشر وبعضهم البعض أفرادا وجماعات ودولا وأمما.
يؤكد نص الآية على تحريم الظلم، سواء كان ظلما في وزن الفاكهة أو الخضروات، أو ظلما في تقييم مجهود الناس وأعمالهم، وذلك أن ظلم الناس يشيع في الحياة مشاعر من الألم واليأس واللامبالاة، وتكون النتيجة أن ينهزم الناس من الداخل، وتنهار علاقات العمل، وتلحقها القيم، ويشيع الإضطراب في الحياة، وتستكمل الآية تحذيرها من الإفساد في الأرض قصدا وعمدا.

انتقل الحديث من شعيب - عليه السلام - إلى قوم شعيب فقالوا لنبيهم: {قَالُواْ يَا شُعَيْبُ أَصَلاَتُكَ تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَن نَّفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاء إِنَّكَ لَأَنتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ } هود (87)

سخروا من شعيب وتهكموا عليه وقالوا كيف تتدخل صلاتك في أن نترك ما كان يعبد آباؤنا وكيف تتدخل صلاتك في إرادتنا وطريقة تصرفنا في أموالنا، فما هي علاقة الإيمان والصلاة بالمعاملات المادية؟!
لقد أنكروا أن يتدخل الدين في حياتهم اليومية، وسلوكهم، واقتصادهم، وطريقة إنفاقهم لأموالهم بحرية، فحرية إنفاق المال وإهلاكه والتصرف فيه شيىء لا علاقة له بالدين، وهذا هو فهم قوم شعيب للإسلام الذي جاء به شعب، وهو لا يختلف كثيرا أو قليلا عن فهم عديد من الأقوام في زماننا الذي نعيش فيه؟!

ولو أنك سألت قوم شعيب عن تصورهم للدين لأخبروك أنه مجموعة من القيم الروحية الطيبة التي لا تتدخل في الحياة اليومية، وبهذا الفهم يتحول الدين إلى مجموعة من الطقوس المزركشة والمراسيم الميتة، وهذا فهم مضحك، لأن الله لا يرسل أنبياءه للهو واللعب .. سبحانه وتعالى علوا كبيرا على ذلك .. إنما يرسل أنبياءه بأسلوب جديد للحياة يحتوي على قيم وأفكار لا يكون لها معنى إذا لم تتحول إلى نظام يحكم الحياة العامة ويحكم الحياة الخاصة على إمتداد الوقت.

الدين في حقيقته صلة بالله وأسلوب للحياة لا ينفصل أي منهما عن الآخر، وبهذا الفهم يستقيم معنى الدين، ويصير الدين دينا بحق، وإلا كان الأمر هزلا في هزل.


ملخص لقصة شعيب -عليه السلام- مع قومه من كتاب "أنبياء الله" – أحمد بهجت.

الثلاثاء، 9 يوليو 2013

ماذا نفعل عندما نقع في المشاكل ؟؟؟

عندما نُخطىء وتمسنا المشكلات الصغيرة أو تتكرر أخطاءنا ونغرق في مشاكل كبيرة ومصائب ضخمة، وليس من المهم إن كنت فردا أو مجموعة أو حزبا أو وطنا فإنه من اليسير عندما تمر بك المشاكل أو توقفك المصائب أن تلقي مباشرة باللوم بعيدا عنك وأحيانا ما يكون هذا البعيد كيانا معروفا كفرد آخر أو جماعة أخرى أو حزب آخر أوحتى وطن آخر وفي أحيان أخرى يكون هذا البعيد هو المجهول كأن تلقي باللوم على المؤامرات التي لا تستطيع تحديد ملامحها أو على أعداء يحاربونك ولا تستطيع أن تحددهم وتحدد وجوه وكيفية محاربتهم لك.


سواء رميت باللوم على كيان معروف أو على كيان مجهول فالمشكلة واحدة وإن كانت المشكلة أكبر عندما يكون اللوم موجها لكيان مجهول.

توجيه اللوم بعيدا عنك عندما تقابلك أي مشكلة هو أمر سهل ويسير ويجعلك في أحيان كثيرة تحس بالظلم والرضا الخادع عن نفسك وقد يكسبك تعاطف من حولك ولكنه سيبعد بصرك وبصيرتك عن نفسك وما في يديك وما تفعله والذي قد يكون هو السبب الأساسي للمشكلة أو المصيبة التي وقعت فيها وحتى إن كان هناك عوامل أخرى مؤثرة، فإن نظرت في نفسك ستجد أنك قصرت حينما لم تضعها تحت بصرك وتستخدمها لصالحك بعقل وحكمة.

توجيه اللوم بعيدا عنك عندما تقابلك المشاكل يعقد الأمور وتتراكم المشاكل وقد تتحول الأمور بمرور الوقت لمصائب كبيرة تزداد تكلفة علاجها بمرور الوقت وأنت توجه جهدك بعبدا عن مكان الداء الحقيقي.

عندما تقع في المشاكل عليك أن تلقي باللوم أولا على نفسك وثانيا على نفسك وثالثا على نفسك قبل أن تتراكم المشاكل وتتحول لمصائب يصعب علاجها.

نحن في حاجة لأن نضع هذه الآية الكريمة أمام أعيننا طوال الوقت والتي نزلت مع الآيات التي تكلمت عن غزوة أحد عندما تساءل المؤمنون بتعجب عن القتلى الذي قتلوا منهم والجرحى الذين جرحوا وكيف أصابنا هذا الذي أصابنا ، ونحن مسلمون وهم مشركون ، وفينا نبي الله صلى الله عليه وسلم يأتيه الوحي من السماء ، وعدونا أهل كفر بالله وشرك؟. " أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا" . فكانت تكملة الآية والمقطع الذي تلى هذا المقطع مباشرة من دون فاصل أو تأخير
" قل هو من عند أنفسكم" وقد أعقبت هذه الإجابة سؤالهم وتعجبهم مباشرة من دون أي تأخير وإن وجدت عوامل أخرى ساهمت فيما تعرضوا له من مصيبة ولكن الله عزوجل أراد أن يوجه بصرهم وبصيرتهم لأنفسهم لكي يتفقدوها ويبحثوا فيما فعلوا وفي المسار الذي أوصلهم لتلك المصيبة حتى يصلوا للداء الحقيقي ولا يبددوا جهدهم لعلاج أوهام أو لعلاج أعراض بعيدة عن الداء الحقيقي.

عندما تقع في مشكلة صغيرة أو كبيرة فلا تلقي باللوم على الآخر أو المجهول ولكن ابحث في نفسك وعن نفسك وشَخص الداء بعقل وحكمة وعندها فقط ستستطيع أن تصل للدواء الحقيقي الذي يقضي على المشكلة من دون أن يكون مجرد مُسكن يُسكنها لبعض الوقت لتعود بعدها من جديد.

الأربعاء، 19 يونيو 2013

زقزقات العصافير ..

مئات الآلاف من عصافير مصر تستيقظ مع الصُبح، فتدب زقزقاتها في الأشجار من قبل أن تنطلق للسعي في الأرض من وراء رزقها. تعود العصافير لأشجارها مع الغروب، فتدب زقزقاتها في الأشجار من جديد قبل أن تخفت شيئا فشيئا حتى يغطي السكون الأشجار والعصافير برداءه الذي لا يكشفه عنهم إلا مع الصبح.
كان غريبا جدا أن أرى بضعة عصافير ترفرف بأجنحتها ليلا وتنقر في الأرض بمناقيرها، فرحت استكشف المكان، فإذا هناك شجرة تحمل على أغصانها وفروعها مئات العصافير، وبجوار هذه الشجرة هناك رجل نصب بضعة أقفاص، وبكل منها بضعة عصافير ملونة من عصافير الزينة التي يعرضها للبيع، وزقزقاتها تهرب من خلف الأقفاص فتلتقطها أذناي وأحس في نغماتها بشيىء عجيب، ويبدو ان تلك الزقزقات هي من خدعت العصافير فأنزلتها من على أشجارها، ولا أدري أنزلت فرحا بقدوم الصبح أم نزلت تألما لزقزقات أخواتها من خلف الأقفاص؟!




الثلاثاء، 11 يونيو 2013

مقطوعة حزينة ..



لم أستطع أن أتجاهل هذه المقطوعة الحزينة التي ظلت ترن من حولي بنغمات قصيرة لبضعة دقائق متواصلة، وكأنها تخرج من آلة وحيدة، وكأن النغمات تَوائم متماثلة خرجت لتوها من رحم الآلة للعالم، ولكل منهم نفس الملامح، ولكن الروح متفردة. 
كنت جالسا أمام شاشة الكمبيوتر أقرأ موضوعاً جذبني من الإنترنت، وكنت بدأت في قراءته من قبل أن تبدأ هذه المقطوعة، وشعرت وكأن كل نغمة سكين بنصل صغير وحاد يبتر السطور التي أقرأها من قبل أن تحط رحالها في عقلي بعد أن التقطتها عيناي.
لم أستطع ان أصبر طويلا، فاستسلمت بسرعة، وقمت من أمام الكمبيوتر لأفتح نافذة غرفتي التي تطل مباشرة على الشارع الذي أسكن فيه، وهو شارع جانبي ضيق كفرع ضعيف أوشك على السقوط من غُصن مدينة مُتعَبة.
فتحت النافذة، وأخذت أبعث ببصري في كل إتجاه بحثا عن المنبع الذي تتدفق منه هذه المقطوعة الحزينة، لعلي أستطيع أن أهتدي إلى عازفيها في الليل الذي كان يغطي الشارع بظلام ثقيل تداعبه بعض الأضواء الهاربة من المصابيح المحبوسة في البيوت عن جانبي الشارع.
ها هي سيارة جارنا: عم أحمد، التي لم أرها تتحرك من مكانها هذا منذ أن قدمنا إلى الشارع قبل حوالي عشر سنوات، حتى أنها أصبحت علامة مميزة لشارعنا، ولا يعرف أحد تحديدا ما سر احتفاظه بها للآن، حتى أننا لم نعد نعرف لها لونا من طبقات الطين التي تراكمت عليها، وهي لا تبرح مكانها في الجهة المقابلة لبيتنا.
من خلف سيارة عم أحمد لمحت الكلبة الشابة تخرج، بجسد هزيل، وضعيف، وبلونٍ بُني أوقفه شيىء ما في منتصف طريقه إلى الصُفرة، وكان أسلافها من أوائل عائلة الثدييات التي رَوَضهم الإنسان ليُساعدونه في شئون حياته؛ من الصيد إلى النقل، والحراسة، وغير ذلك الكثير، ولا أدري أكان هذا من حسن حظها أم من سوء حظها!
لكن الظروف تغيرت ولم يعد للخَلَف نفس مكانة أسلافهم، ولا نفس ظروفهم، وأصبح عليهم أن يحاربوا من أجل البقاء؛ أعداءً من صنع البشر لم يعرفهم أسلافهم الأوائل، وها هي الكلبة الشابة تحارب أحدهم: بالوعة للصرف الصحي.
من خلف السيارة خرجت، وهي تحمل في فمها جرواًَ وليداً لا يزيد عن كف اليد، وانطلقت به مسرعة صوب نهاية الشارع وهي تمشي بصعوبة في مياه الصرف التي أغرقت فجأة، وكالمعتاد من دون سابق إنذار مساحة واسعة من الشارع، حتى أن المياه غمرت جزءا ليس يسيرا من إطارات سيارة عم أحمد. 
ما إن بلغت نهاية الشارع، حتى انحرفت يمينا بعيدا عن عيني التي تلهث من خلفها، ولم تمهلني سوى لحظة حتى عادت من دون ما ذهبت به، وبخطوات تسابق الزمن، وهي تضرب المياه بأقدام قلقة صوب نفس السيارة العتيقة، ومن خلفها خرجت من جديد وبين فكيها نفس ما خرجت به في المرة السابقة، وفي إتجاه نهاية الشارع.
أحسست نفسي للحظة أغرق في هذا المشهد الذي تكرر أمامي بضعة مرات، وفي كل مرة تدخل الكلبة الشابة وتخرج بأحد جِراءها من خلف السيارة تخفت المقطوعة الحزينة ويخفت صوتها درجة، حتى انسحبت آخر النغمات على صهوة حزنها أمام قتال وصبر الكلبة الشابة التي ظننت أنها لن تعود مجددا بعد أن نجت بآخر وليد من الغرق، ولكنها عادت من جديد وغابت هذه المرة خلف السيارة للحظات وخرجت وهي تقدم قدما وتؤخر أخرى خوفا من أن يكون الظلام سرق منها أحد صغارها.