لم أستطع أن أتجاهل هذه المقطوعة الحزينة التي ظلت ترن من حولي بنغمات قصيرة لبضعة دقائق متواصلة، وكأنها تخرج من آلة وحيدة، وكأن النغمات تَوائم متماثلة خرجت لتوها من رحم الآلة للعالم، ولكل منهم نفس الملامح، ولكن الروح متفردة.
كنت جالسا أمام شاشة الكمبيوتر أقرأ موضوعاً جذبني من الإنترنت، وكنت بدأت في قراءته من قبل أن تبدأ هذه المقطوعة، وشعرت وكأن كل نغمة سكين بنصل صغير وحاد يبتر السطور التي أقرأها من قبل أن تحط رحالها في عقلي بعد أن التقطتها عيناي.
لم أستطع ان أصبر طويلا، فاستسلمت بسرعة، وقمت من أمام الكمبيوتر لأفتح نافذة غرفتي التي تطل مباشرة على الشارع الذي أسكن فيه، وهو شارع جانبي ضيق كفرع ضعيف أوشك على السقوط من غُصن مدينة مُتعَبة.
فتحت النافذة، وأخذت أبعث ببصري في كل إتجاه بحثا عن المنبع الذي تتدفق منه هذه المقطوعة الحزينة، لعلي أستطيع أن أهتدي إلى عازفيها في الليل الذي كان يغطي الشارع بظلام ثقيل تداعبه بعض الأضواء الهاربة من المصابيح المحبوسة في البيوت عن جانبي الشارع.
ها هي سيارة جارنا: عم أحمد، التي لم أرها تتحرك من مكانها هذا منذ أن قدمنا إلى الشارع قبل حوالي عشر سنوات، حتى أنها أصبحت علامة مميزة لشارعنا، ولا يعرف أحد تحديدا ما سر احتفاظه بها للآن، حتى أننا لم نعد نعرف لها لونا من طبقات الطين التي تراكمت عليها، وهي لا تبرح مكانها في الجهة المقابلة لبيتنا.
من خلف سيارة عم أحمد لمحت الكلبة الشابة تخرج، بجسد هزيل، وضعيف، وبلونٍ بُني أوقفه شيىء ما في منتصف طريقه إلى الصُفرة، وكان أسلافها من أوائل عائلة الثدييات التي رَوَضهم الإنسان ليُساعدونه في شئون حياته؛ من الصيد إلى النقل، والحراسة، وغير ذلك الكثير، ولا أدري أكان هذا من حسن حظها أم من سوء حظها!
لكن الظروف تغيرت ولم يعد للخَلَف نفس مكانة أسلافهم، ولا نفس ظروفهم، وأصبح عليهم أن يحاربوا من أجل البقاء؛ أعداءً من صنع البشر لم يعرفهم أسلافهم الأوائل، وها هي الكلبة الشابة تحارب أحدهم: بالوعة للصرف الصحي.
من خلف السيارة خرجت، وهي تحمل في فمها جرواًَ وليداً لا يزيد عن كف اليد، وانطلقت به مسرعة صوب نهاية الشارع وهي تمشي بصعوبة في مياه الصرف التي أغرقت فجأة، وكالمعتاد من دون سابق إنذار مساحة واسعة من الشارع، حتى أن المياه غمرت جزءا ليس يسيرا من إطارات سيارة عم أحمد.
ما إن بلغت نهاية الشارع، حتى انحرفت يمينا بعيدا عن عيني التي تلهث من خلفها، ولم تمهلني سوى لحظة حتى عادت من دون ما ذهبت به، وبخطوات تسابق الزمن، وهي تضرب المياه بأقدام قلقة صوب نفس السيارة العتيقة، ومن خلفها خرجت من جديد وبين فكيها نفس ما خرجت به في المرة السابقة، وفي إتجاه نهاية الشارع.
أحسست نفسي للحظة أغرق في هذا المشهد الذي تكرر أمامي بضعة مرات، وفي كل مرة تدخل الكلبة الشابة وتخرج بأحد جِراءها من خلف السيارة تخفت المقطوعة الحزينة ويخفت صوتها درجة، حتى انسحبت آخر النغمات على صهوة حزنها أمام قتال وصبر الكلبة الشابة التي ظننت أنها لن تعود مجددا بعد أن نجت بآخر وليد من الغرق، ولكنها عادت من جديد وغابت هذه المرة خلف السيارة للحظات وخرجت وهي تقدم قدما وتؤخر أخرى خوفا من أن يكون الظلام سرق منها أحد صغارها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق